فصل: تفسير الآية رقم (26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطي من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة، حتى قال قائلهم: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله إن هذا الحي قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظامًا في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء. قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله ما أنا إلا امرؤ من قومي وما أنا. قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة. قال: فخرج سعد فجمع الناس في تلك الحظيرة. قال: فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا أتاه سعد فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار قال: فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل. ثم قال: يا معشر الأنصار ما قَالَةٌ بلغتني عنكم وجدَةٌ وجدتموها في أنفسكم، ألم آتكم ضلالًا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم. قالوا: بل الله ورسوله أمنُّ وأفضل. قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله ولله ولرسوله المنُّ والفضل؟ قال: أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم وصدقتم، أتيتنا مكَذَّبًا فصدقناك، ومخذولًا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلًا فأغنيناك.
أي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لهم ثلاثة أشياء من فضل الإسلام عليهم، وهي أنه نقلهم من الضلال إلى الهدى، ومن الفقر إلى الغنى، ومن العداوة إلى الأخوة والمحبة.
وعندما تحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فضل الأنصار على الدعوة ذكر أربع فضائل، وهي أن أهل مكة كانوا قد حاولوا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم فهاجر منها فآواه أهل المدينة، وجاء الرسول والمؤمنون إلى المدينة لا يملكون شيئًا، فأعطاهم الأنصار من أموالهم وزوجاتهم، وكان الكفار يحاولون قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمَّنه الأنصار، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خذله قومه من قريش فنصره الأنصار.
عندما سمع الأنصار قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذكر مفاخرهم. قالوا: المنة لله والرسوله، أي: إننا معشر الأنصار لا نقول هذا الكلام الذي قلته أبدًا؛ لأن حلاوة الإيمان وجزاء الإيمان أكبر من هذا بكثير، وبهذا لا يكونون هم الذين أعطوا، بل الإيمان هو الذي أعطاهم. فالإيمان نَفْعُه نَفْع أبدي. والحق تبارك وتعالى يقول: {قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ للإيمان} [الحجرات: 17].
وعندما قال الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم: بل المنة لله ولرسوله، قال لهم رسول الله عليه الصلاة والسلام: «أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألَّفْتُ بها قومًا ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم، أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم في رحالكم، فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار، ولو سلك الناس شعْبًا وسلكت الأنصار شعبًا لسلكت شعبْ الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار» فلماَ سمعوا هذا القول من رسول الله صلى الله عليه وسلم بَكَوْا حتى اخضلَّتْ لحاهم وقالوا: رضينا بالله وبرسوله قسمًا وحظًا. وانتهت المسألة.
وهكذا نرى أنه حين تأتي مقارنة بين شيئين، لابد أن نتفاخر بالشيء الدائم الباقي الذي حصلنا عليه، أما الشيء الذي مآله إلى فناء فإنَّ من ليس معه يعيش كمن عاش معه، وهو متاع الدنيا، تعيش معه وتعيش بدونه. ولكن لا أحد يستغني عن الإيمان، نستغني عن الدنيا نعم، أما عن الإيمان وعن الله ورسوله فلا. وبعد أن قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم، جاء وفد هوازن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة وقد أسلموا. فقالو: يا رسول الله إنَّ أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك فامنن علينا منّ الله عليك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ قالوا: يا رسول الله خيَّرتنا بين أحسابنا وبين أموالنا بل تردُّ علينا نساؤنا وأبناؤنا فهو أحب إلينا فقال لهم: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم فإذا صليت للناس الظهر فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبنائنا ونسائنا فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به فقال رسول الله صلى الله عليه سولم: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم. قال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا. وقال عيَيْنة بن حصن بن حذيفة بن بدر: أما أنا وبنو فزارة فلا. قال عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا، قالت بنو سليم: لا، ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عباس: يا بني سليم وهنتموني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما من تمسك منكم بحقه من هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول شيء نصيبه، فردوا على الناس أبناءهم ونساءهم.. ذلك هو ما يشير إليه قول الحق، تبارك وتعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25].
أي: أنكم بدأتم المعركة ولم يكن الله في حسبانكم، بل كنتم معتمدين على كثرتكم فلم تنفعكم ولم تحقق لكم النصر؛ ولذلك فررتم خوفًا من الهزيمة ووجدتم الأرض ضيقة أمامكم، أي: تبحثون هنا وهناك عن مكان تختبئون فيه فلا تجدون، مع أن الأرض رحبة أي واسعة، ولكنها أصبحت ضيقة في نظركم وأنتم تفرون من المعركة. إلا أن الحق سبحانه وتعالى لم يرد أن ينهي المعركة هذا الإنهاء. ولكنه أراد فقط أن ينزع من قلوب المسلمين المباهاة بكثرة العدد وظنهم أن اللجوء إلى الأسباب الدنيوية هو الذي سيحقق لهم النصر. أراد منهم سبحانه وتعالى أن يعلموا جيدًا أنهم إنما ينتصرون بالله عز وجل، وأن كثرتهم دون الاعتماد عليه سبحانه لا تحقق لهم شيئًا. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا}
قوله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ}: فيه أوجهٌ:
أحدُها: أنه عطفٌ على محلِّ قوله: {في مواطنَ}، عَطَفَ ظرف الزمان من غير واسطة في على ظرفِ المكان المجرورِ بها. ولا غَرْو في نسق ظرف زمان على مكان أو العكسِ تقول: سرت أمامك يوم الجمعة إلا أنَّ الأحسنَ أن يُتْركَ العاطفُ مثله.
الثاني: زعم ابن عطية أنه يجوز أن يُعْطَفَ على لفظ {مواطن} بتقدير: وفي، فحذف حرفَ الخفض. وهذا لا حاجةَ إليه.
الثالث: قال الزمخشري: فإن قلت: كيف عطفَ الزمانَ على المكان، وهو {يوم حنين} على {مواطن}؟، قلت: معناه: وموطن يوم حنين أو في أيام مواطنَ كثيرة ويوم حنين.
الرابع: أن يُراد بالمواطن الأوقاتُ، فحينئذٍ إنما عُطِف زمانٌ على زمان. قال الزمخشري بعدما قَدَّمْتُه عنه: ويجوز أن يُراد بالمواطن الوقت كمقتل الحسين، على أن الواجب أن يكون {يومَ حنين} منصوبًا بفعل مضمر لا بهذا الظاهر. ومُوْجِبُ ذلك أن قولَه: {إذ أعجبتكم} بدلٌ من {يوم حنين}، فلو جَعَلْتَ ناصبَه هذا الظاهرَ لم يصحَّ؛ لأنَّ كثرتَهم لم تُعْجبهم في جميع تلك المواطن، ولم يكونوا كثيرين في جميعها، فبقي أن يكونَ ناصبُه فعلًا خاصًا به.
قلت: لا أدري ما حَمَله على تقدير أحد المضافين أو على تأويل الموطن بالوقت ليصحَّ عَطْفُ زمانٍ على زمان، أو مكان على مكان، إذ يصحُّ عَطْفُ أحدُ الظرفين على الآخر؟
وأمَّا قولُه: على أن الواجبَ أن يكون إلى آخره كلامٌ حسن، وتقديره أن الفعلَ مقيدٌ بظرفِ المكان، فإذا جعلنا إذ بدلًا من يوم كان معمولًا له؛ لأنَّ البدلَ يَحُلُّ مَحَلَّ المبدل منه، فيلزم أنه نصرهم إذا أعجبتهم كثرتُهم في مواطن كثيرة، والفرض أنهم في بعض هذه المواطن لم يكونوا بهذه الصفة. إلا أنه قد ينقدح فإنه تعالى لم يقل: في جميع المواطن حتى يلزم ما قال، ويمكن أن يكونَ أراد بالكثرة الجميعَ، كما يُراد بالقلة العدمُ.
قوله: {بِمَا رَحُبَتْ} ما مصدريةٌ أي: رَحْبها وسَعَتها. وقرأ زيد ابن علي في الموضعين: {رَحْبَت} بسكون العين، وهي لغة تميم، يَسْلُبون عين فَعُل فيقولون في شَرُف: شَرْف.
والرُّحْب بالضم: السَّعَة، وبالفتح: الشيء الواسع. يقال: رَحُب المكان يَرْحُب رُحْبًا ورَحَابة وهو قاصر. فأمَّا تعدِّيه في قولهم: رَحُبَتْكم الدار فعلى التضمين لأنه بمعنى وَسِعَتْكم.
وحُنَيْن اسمُ واد، فلذلك صَرَفَه. وبعضُهم جعله اسمًا للبقعة فَمَنَعَه في قوله:
نَصَرُوا نبيَّهُم وشَدُّوا أَزْرَه ** بحنينَ يومَ تواكُلِ الأبطال

وهذا كما قال الآخر في حراء اسمِ الجبل المعروف اعتبارًا بتأنيث البقعة في قوله:
ألسنا أكبرَ الثَّقَلَيْنِ رَحْلًا ** وأَعْظَمَهم ببطنَ حِراءَ نارا

والمواطن جمع مَوْطِن بكسر العين، وكذا اسم مصدره وزمانه لاعتلالِ فائه كالمَوْعد قال:
وكم مَوْطنٍ لولايَ طِحْتَ كما هوى ** بأجرامه مِنْ قُلَّة النِّيْقِ مُنْهوي

. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ في مَوَاطِنَ كَثِيرةٍ}.
النصرة من الله تعالى في شهود القدرة، والمنصورُ مَنْ عَصَمه الله عزَّ وجلَّ عن التوهُّم والحسبان، ولم يَكِله إلى تدبيره في الأمور، وأثبته الحقُّ- سبحانه- في مقام الافتقار متبريًا عن الحَوْل والمُنَّة، مُتَحَقِّقًا بشهود تصاريف القدرة، يَأْخُذُ الحقُّ- سبحانه- بيدِه فيخرجه عن مهواة تدبيره. ويوقفه على وصف التصبُّر لقضاء تقديره.
قوله جلّ ذكره: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بشمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ}.
يعني نَصَرَكم يومَ حُنَيْن حين تَفَرَّقَ أكثرُ الأصحاب، وافترت أنياب الكَرَّةِ عن نِقاب القَهْر فاضطربت القلوبُ، وخانت القوى أصحابَها، ولم تُغْنِ عنكم كَثْرتُكم، فاستخلص اللهُ أسرارَكم- عند صدق الرجوع إليه- بِحُسْنِ السكينةِ النازلة عليكم، فَقَلَبَ اللهُ الأمرَ على الأعداء، وخَفَقَتْ راياتُ النصرة، ووقعت الدائرةُ على الكفار، وارتدَّتْ الهزيمةُ عليهم فرجعوا صاغرين. اهـ.

.تفسير الآية رقم (26):

قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال الفخر:
واعلم أنه تعالى لما بين أن الكثرة لا تنفع، وأن الذي أوجب النصر ما كان إلا من الله ذكر أمورًا ثلاثة: أحدها: إنزال السكينة والسكينة ما يسكن إليه القلب والنفس، ويوجب الأمنة والطمأنينة، وأظن وجه الاستعارة فيه أن الإنسان إذا خاف فر وفؤاده متحرك، وإذا أمن سكن وثبت، فلما كان الأمن موجبًا للسكون جعل لفظ السكينة كناية عن الأمن.

.من أقوال المفسرين:

.قال البقاعي:

{ثم أنزل الله} أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال {سكينته} أي رحمته، وهي الأمر الذي يسكن القلوب عن أن تتأثر يدهمها من البلاء من الوثوق به سبحانه ومشاهدة جنابة الأقدس والغناء عن غيره.
ولما كان المقام للرسالة، وكان تأييد مدعيها من أمارات صدقه في دعوى أنه رسول، وأن مرسله قادر على ما يريد لاسيما إن كان تأييده على وجه خارق للعادة، عبر به دون وصف النبوة فقال: {على رسوله} أي زيادة على ما كان به من السكينة التي لم يحز مثلها أحد، ثبت بها الثلاثين ألفًا أو عشرين ألفًا أو أربعة آلاف على اختلاف الروايات في عشرة أنفس أو مائة أو ثلاثمائة- على الاختلاف أيضًا، لم يكن ثباتهم إلا به، ثم لم يزده ذلك إلا تقدمًا حتى أن كان العباس عمه وأبو سفيان بن الحارث ابن عمه- رضى الله عنهما- ليكفان بغلته عن بعض التقدم، ولعل العطف بـ {ثم} إشارة إلى علو رتبة ذلك الثبات واستبعاد أن يقع مثله في مجاري العادات {وعلى المؤمنين} أي أما من كان منهم ثابتًا فزيادة على ما كان له من ذلك، وأما غيره فأعطي ما لم يكن في ذلك الوقت له، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمه العباس رضي الله بعدما فر الناس: ناد فيهم يا عباس! فنادى وكان صيتًا: يا عباد الله! يا أصحاب الشجرة! يا أصحاب سورة البقرة! فكروا عنقًا واحدًا يقولون: لبيك لبيك! ويحتمل أن يكون ذكر الرسول عليه السلام لمجرد التبرك كما في ذكر الله في قوله: {فإن لله خمسه} [الأنفال: 41] وزيادة في تعظيم الامتنان به لأن النفوس إلى ما أعطى منه الرسول أميل والقلوب له أقبل لاعتقاد جلاله وعظمته وكماله {وأنزل} أي من السماء {جنودًا لم تروها} أي من الملائكة عليهم السلام {وعذب} أي بالقتل والأسر والهزيمة والسبي والنهب {الذين كفروا} عبر بالفعل لأن فيهم من آمن بعد ذلك.
ولما كان ما عذب به من أوجد مطلق هذا الوصف عظيمًا، أتبعه بيان جزاء العريق في ذلك ترهيبًا لمن آثر حب شيء مما مضى على حب الله فقال: {وذلك} أي العذاب الذي منه ما عذب به هؤلاء وغيره {جزاء الكافرين} أي الراسخين في وصف الكفر الذين آثروا حب من تقدم من الآباء وغيرهم على الله فثبتوا على تقليد الآباء في الباطل بعدما رأوا من الدلائل ما بهر الشمس ولم يدع شيئًا من لبس، وأما الذين لم يكن كفرهم راسخًا فكان ذلك صلاحًا لهم لأنه قادهم إلى الإسلام، فقد تبين أن المنصور من نصره الله قليلًا كان أو كثيرًا، وأن القلة والكثرة والقوة والضعف بالنسبة إلى قدرته سواء، فلا تغتروا بما ألزمكم من النعم فإنه قادر على نزعها، لا يستحق أحد عليه شيئًا، ولا يقدر أحد على رد قضائه، وفي ذلك إعلام بأنه لا يرتد بعد إيمانه إلا من كان عريقًا في الكفر، وفيه أبلغ تهديد لأنه إذا عذب من أوجد الكفر وقتًا ما فكيف بمن رسخ فيه!. اهـ.